afterheader desktop

afterheader desktop

after Header Mobile

after Header Mobile

قصة قصية بعنوان ” قبسات ” : تأليف : فاريديس لوغو× ترجمة : سيدي صالح الإدريسي××



الصحراء لايف : تأليف : فاريديس لوغو×

                                 ترجمة : سيدي صالح الإدريسي××

 

 

 

بسطت رجليها إلى الأمام قليلا، فتوغلت زاوية الكرسي بين ركبتيها. كان الكرسي مريحا ويغريها بين الفينة والأخرى للغوص فيه أكثر. لاحت بصرها خارج النافذة، فرأت من خلال الأبنية والسيارات نهارا هادئا يتسلل ضوءه عبر الكوة. رفعت مرارا ذراعها الأيمن الذي كان يتلاشى متدليا بسبب وضعية جلوسها على الكرسي. شعرت بالوخز المزمن للإبر غير المرئية التي تعذب طرفها. تنهدت. أثناء رؤيتها لذراعها، تذكرت حادثة تطفو على سطح الذاكرة من وقت لآخر. كانت حينها تبلغ من العمر ست سنوات، وعائلتها حديثة العهد بالانتقال للحارة التي ستقضي فيها بقية طفولتها ومراهقتها. كانت حارة بشعة. بعض العائلات احتلتها وجزأتها، وباعت القطع الأرضية بعد ذلك لعائلات أكثر فقرا. اشترى والدها القطعة الأرضية بحماس كبير. لقد كره أداء سومة الكراء، لأنه يرى فيها مذلة. استطاع رفع نصف المنزل بفضل القليل من المال الذي كان بحوزته، ولم يسلم اختلاسات بارونات البناء. انتقلوا إلى بناية رمادية، لكنهم كانوا سعداء، فهم لم يملكوا في السابق فضاء أرحب من هذا.
تظهر الدُّورُ في هذا الحي العشوائي مزارع صغيرة محاطة بأَحْرَاجٍ، ومياه آسنة، وضفادع، والكثير من البعوض. وقع ذلك الحدث الذي تذكرته في نصف المنزل الذي لم يكن مأهولا بعد، والذي خُصص ليكون غرفا في المستقبل، حيث استطاع والدها وضع الأعمدة، ورفع الحيطان دون سقف ولا نوافذ. إلا أن هذه المكعبات المفتوحة على السماء، امتلأت بكل الحشائش التي نمت بتوحش. اشتروا للصبية ذات الست سنوات مِرَشَّة من البلاستيك الأزرق، أبهجتها. ولعدم وجود حديقة حقيقية، فقد اختارت نبتة عادية نمت دون انتظام وسط ما سيكون بيتا في المستقبل. اعتنت الصبية بالنبتة وسقتها كما لو أنها تحفة زخرف جميلة. في ذلك اليوم، عندما رفعت ذراعها الأيسر لجعل المرشة فوق النبتة، لاحظت أمرا؛ انتبهت إلى أن ذراعها يتحرك فعلا. كان ذراعها ينتقل هنا وهناك. ذراعها استطاع أن يصعد وينزل. كل هذا كان ممكنا لوجود الفراغ. ومن دهشتها لهذا الاكتشاف، وضعت الصبية المرشة على الأرض المتربة، وحركت ذراعيها بنشاط في كل الاتجاهات. نظرت إلى يديها الصغيرتين ورسمت بهما انحناءات لطيفة. إنه الفراغ، العدم الذي تستطيع أن تتحرك فيه الأجسام. لم تلاحظ أبدا الوجود الدائم للفراغ، كان هناك يحيط بها دوما؛ ولهذا السبب تحديدا كان عصيا على الإدراك. الفراغ والحركة في بيت دون سقف في حي عشوائي ساخن من أحياء الكاريبي.
أصبحت هذه الذكريات المضيئة غريبة عنها، وكأنها ليست جزءا من ماضيها. عاودت استدارة ذراعها الأيمن الجميلة، ومدته بأريحية على حافة الكرسي. أصبح بصرها الممعن في النافذة قاتما عندما وجهته صوب جوف الغرفة. كانت تسكن شقة جميلة. أمعنت النظر في الحائط الذي قبالتها؛ كان سطحا أملسا، ونظيفا، ومصبوغا بالبنفسجي. لقد كان مختلفا بالكامل عن حيطان منزل طفولتها التي لم تجير بتاتا، وكانت مظلمة دائما، ومتسخة، وزواياها مليئة بأنسجة العناكب، وتسرح فيه السحليات المترنحة التي تصدر ضوضاء غريبة، وتساعد في مهمة القضاء على البعوض بأكله. لقد انتظرت ثلاثين سنة في هذا المنزل الذي لم يكتمل أبدا، وهو دوما في طور البناء في أحلام والدها.
بقيت متسمرة قبالة الحائط البنفسجي، ترمق نجيمات صفراء تتناثر هنا وهناك مزينة الحائط، وفي النصف السفلي منه تستلقي قطعة أثاث ملفوفة. كانت مليئة بالكتب، وبعض الزخارف والكثير من الألعاب. في لحظة ما أغلقت عينيها وتمثلت لها أزهار نرد تتصادم، فحملتها نزوة التذكر إلى الفصل العاشر من مستوى الباكالوريا. قبل خمس عشرة سنة، كان يومها يوما دراسيا مليئا بمواد أساسية، وأخرى مملة. كانت تحضر درس الإحصاء، وتنجز تجارب عشوائية. قُسمت القاعة إلى مجموعات عمل. تكونت كل مجموعة من ثلاثة مراهقين يتصببون عرقا توزعوا في فناء المدرسة. كانوا يرمون أزهار النرد، ويدونون ملاحظات من أجل حل المسألة، ويراقبهم المدرس غير مبال. هنا وقع الحدث الثاني؛ لقد لاحظت أن النصيب كان مُقَدَّراً. رمت أحجار النرد بسرعة وكانت النتائج وفقا لما كان محتملاً، شعرت بالإحباط لأنها لم تفهم لماذا لم يظهر الرقم الفعلي للزهر. لماذا لم يظهر دائما الرقم واحد في رميات أحجار النرد الست؟ لماذا نحصل دائما على الرقم خمسة خلال عشرين رمية دون أن يحصل ما ليس في الحقيقة منتظرا؟ لا وجود للمكتوب، فكل شيء كان بالنسبة لها إفراطاً في التوقع. كتمت هذه القناعة التي شغلت بالها باستمرار، وكانت غالبا ما تحجم عن الحديث عنها أمام الآخرين. بعد مضي سنوات، وعندما كانت في المرحلة الجامعية، وبينما كانت تقارع الكأس مع مهندسين في حانة سيئة السمعة من حانات بوغوتا، حكت لهم القلق المزمن الذي سببه لها اكتشافها الثاني. أنصتوا لها باسمين، وأجابها أحدهم بما قل ودل قائلا: “أنت تخلطين بين الاحتمال والإمكان، قد يكون ممكنا حصولك على الرقم واحد أو خمسة خلال ست رميات أو عشرين، إلا أن ذلك قليل الاحتمال”. شكرتهم على الشرح. لكنها لم تزل مقتنعة أن الكون يتحرك بطريقة غريبة ومقدرة تقديرا. كان هذا يشعرها بالقرف؛ فهي تفضل الفوضى.
عادت للنجيمات الصفراء. غبار من نجوم. غبار من ذهب. هكذا تذكرت أن اكتشافها الثالث وقع قبل أن تنهي مرحلة الباكالوريا. كان ذلك في حصة التاريخ عندما كانوا يدرسون مرحلة الفتح ومرحلة الاستعمار. كان يهمها حكي هذا الصدام الثقافي، أو الحيف المفرط. كان المدرس يحكي بالتفصيل الممل عملية تبادل الذهب الظالمة بالمرايا بين الإنديخينوس والإسبان. لم تستطع فهم الأمر؛ هل كان حقا تبادلا عادلا؟. من الواضح أنه لم يكن كذلك، وإن كان كذلك يتوجب على المدرس استخلاص نتيجة من هذا الواقعة التاريخية، مفادها فقدان الذهب قيمته، بعد أن عادلت –رمزيا- قيمة مرايا تافهة. لم ترغب في رفع يدها آنذاك لطلب الإذن من المدرس لطرح السؤال. ما فعلته هو أنها أقسمت أن لا تضيع حياتها ووقتها في البحث عن المال والذهب أو المرايا؛ فهي أشياء ليست أهلا للعناء من أجلها.
لاحت بصرها خارج النافذة مرة أخرى، وكانت الشمس الحارقة قد أشرفت على المغيب. قامت بحركاتها الموالية بشكل منظم؛ وجهت ذراعها الأيمن نحو زجاج النافذة، أدارته حتى أغلقتها قبل الزيارة المعتادة للحشرات الليلية. الرضيعة التي نامت وهي ترضع أبعدتها برفق عن ثديها. غطتها بلباسها. ضمتها بتؤدة كي لا توقظها. وضعتها في مرقدها، وخرجت على مهل من البيت البنفسجي مفعمة بالذكريات.


×كاتبة كولومبية
××خريج مدرسة الملك فهد العليا للترجمة بطنجة. مترجم مختص في أدب أمريكا الجنوبية.

 

 


 

banner ocp
تعليقات الزوار
جاري تحميل التعاليق...

شاهد أيضا

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. موافقالمزيد