الصحراء لايف : الكنتي لمين
تنعقد القمة الروسية الافريقية في جو سياسي و عسكري واقتصادي خاص، تداعياته ونتائجه الراهنة والمنظورة أيضا، تؤذن ببداية مرحلة جديدة في العلاقات الدولية، وعندما نقول مرحلة جديدة، لا نعني بذلك بروز وضع دولي مستجد غير متوقع، لأن مقدمات هذا التحول، وكذا التغير في ميزان القوى الدولية اقتصاديا وعسكريا، قد تراءت منذ مدة ليست بالقصيرة، فالعديد من المحللين للشأن الدولي، قد أشاروا لهذه النقطة، وبالأخص فيما يتعلق بالصين، لكن المقصود هو أن حدة وسرعة هذا التحول، مع اعلان فدرالية روسيا الاتحادية لعمليتها الخاصة في أوكرانيا، وإعلان استقلال كل من دونيتسك ولوغانسك خارج مظلة مجلس الامن، وأيضا إعلان استفتاء انضمام الجمهوريتين إلى روسيا الاتحادية، وقبل ذلك جزيرة القرم؛ كلها تحولات جيوسياسية تمثل إعلانا صريحا على تقلقل موازين القوى الدولية، وبداية قواعد لعبة شطرنج جديدة، بلاعبين “جدد” والأهم بمنظورات وتصورات استراتيجية مختلفة.
إن الخطاب الرسمي في كل من روسيا الاتحادية والصين الشعبية، يعلن صراحة ودون مواربة على الاتجاه العام لهذا التحول، أي التصريح من طرف بوتن وشي جين بأن زمن القطبية الأحادية للعالم الغربي بزعامة الولايات المتحدة الامريكية قد ولى، فالكوكب بحاجة إلى عالم متعدد الأقطاب. ونحن نعلم أن الزعامة والقطبية لا تحكمها إرادة الدول والجماعات السياسية، بقدر ارتهان هذه الإرادة بالذات، بواقع ميزان القوى الذي يحدد موقعها في اللعبة الدولية، أي بالإمكانات التقنية والعلمية والاقتصادية والعسكرية والبشرية لهذا الطرف أو ذاك. كما وجب التنبيه إلى أن المفردات والمفاهيم السياسية، التي أطرت الحرب الباردة، لم يعد باستطاعتها استيعاب الواقع الجديد، والتصورات الجديدة التي تحكم حركية التاريخ في الواقع الدولي الراهن. فمثلا، إن شروط ولادة منظمة دول عدم الانحياز والسياق السياسي في ذاك الوقت، وجوهر التوجه الاستراتيجي الذي حكم المرحلة، سيكون من الضرر البالغ القيام بنوع من المطابقة، أو نسخ للسلوك السياسي وللخطة الاستراتيجية بالنسبة للدول المعنية، وهو ما يعني أن قاطرة الدول التي تجد نفسها مجرورة جرا إلى حلبة الصراع الدولي الراهن، في ظل مرحلة من الاصطفاف الدولي متشابكة ومتقاطعة بالمعنيين، يحتم عليها لزاما بلورت تصور استراتيجي محكم يحدد به الفاعل الدولي موقعه، تبعا للأهداف والغايات والحاجيات التي يجب أن ترسم بدقة متناهية. وهو التصور الذي ربما سيرتهن به المستقبل القريب والبعيد لكل الفاعلين والأمم التي يمثلونها.
وبعيدا عن كامل المرافعات التي تقدمها الدول المعاصرة لتبرير سلوكها السياسي أمام الرأي العام، سواء تعلق الأمر بروسيا وشعار الدفاع عن اللغة والمواطنين الروس الذين يعانون من الإبادة العرقية والثقافية من طرف الأكران، وأيضا التحذير من خطر تمدد حلف النيتو شرقا، أو بالنسبة للصين وشعار (دولة واحدة ونظامان) في ما يرتبط بتايوان، أو تعلق الأمر بالمرافعة المضادة لكل من اكرانيا وجزيرة تايوان وشعار التشبث بحق السيادة الوطنية والمنظومة الديمقراطية الغربية بعيدا عن شمولية الحزب الواحد وإرادة الابتلاع من طرف القيصرية الجديدة، فإن حقيقة كون قواعد لعبة الأمم تحركها المصالح أولا وأخيرا، المصالح الآنية أو المرجوة، بكامل الدلالة التي يحيل إليها مفهوم (المصلحة)، هي التي تحكم المشهد، وما شعارات الديمقراطية وحقوق الانسان والتعددية..، إلا تجميلات تغطي صرح المصلحة العظيم.
إفريقيا غارقة من رأسها إلى أخمص قدميها في الديون، فحسب رئيس مجموعة البنك الافريقي للتنمية السيد أكينوومي أديسينا، في الكلمة[1] التي القاها في نادي باريس 20 يونيو 2023، بلغ الدين الخارجي لإفريقيا 1.1 تريليون دولار في سنة 2022 وقد يرتفع إلى نحو 1.13 تريليون دولار بحلول سنة 2023، وخدمة الدين بذلك ستصل إلى 22.3 مليار دولار ، بحيث أن العديد من الدول الافريقية ستعاني من التعثر في سداد مستحقات الدين الخارجي، فسواء تعلق الامر بالأمن الغذائي أو الطاقي، ورغم الإمكانات التي تزخر بها القارة، إلا أنها الأكثر تضررا من الازمة السياسية الراهنة وانعكاساتها الاقتصادية، ليزداد المشهد قتامة، بإضافة تداعيات انتشار فيروس كوفيد 19 على اقتصادات هاته البلدان، ونسب التضخم التي بلغت مستوى مرتفع يهدد بابتلاع كتلة الأجور ومستوى المعيشة، وانعكاسات ذلك على السلم الاجتماعي داخل القارة.
المرجع[2] | نسبة التضخم | عدد البلدان (افريقيا) |
2023 | من 0.6 ⁒ إلى 2.5 ⁒ | 03 بلدان |
من 3 ⁒ إلى 6⁒ | 16 بلد | |
من 6 ⁒ إلى 12 ⁒ | 15 بلد | |
من 12 ⁒ إلى 18 ⁒ | 03 بلدان | |
من 18 ⁒ إلى 24 ⁒ | 04 بلدان | |
من 24 ⁒ إلى 30 ⁒ | 04 بلدان | |
من 30 ⁒ إلى 63.3⁒ | 04 بلدان | |
101⁒ | زيمبابوي |
وبالتالي، ما هو الموضع الذي يجب أن تتخندق فيه القارة الافريقية، أمام هذا السياق المضطرب؟ وهل يمكن الكلام عن إمكانية صياغة تصور موحد، بالنظر إلى الإمكانيات المتواضعة فيما يرتبط بوسائل الصراع الحالي، بالرغم من ان القارة فتية وغنية وتربة خصبة للاستثمار؟
نسجل هنا، أنه يصعب الحديث عن افريقيا موحدة، بمعنى وجود تصور جامع يراعي المصالح المشتركة للدول الافريقية، بالرغم من ان العمل في هذا الاتجاه أمر ضروري ومطلوب، ولابد أن يتم على مراحل. فالنزاعات الحدودية والانقلابات والاختلافات بين الدول الافريقية تكاد تنخر القارة، فالسودان ينزف، والديمقراطية في النيجر تمر عبر امتحان عسير بعد الانقلاب الأخير، وليبيا فعليا دولة في الشرق وأخرى في الغرب، ناهيك عن واقع الميليشيات التي تحكم المدن، ومصر وإثيوبيا في تدافع كبير فيما يخص تدبير ملف مياه النيل، والمغرب في توتر دائم مع الجارة الجزائر، بسبب دعم هذه الأخيرة لتنظيم البوليزاريو، الذي يهدد الوحدة الترابية للبلد، وباقي الدول الافريقية إما غارقة في ديونها، وإما تعيش نزاعات مسلحة هي تعبير عن صراع القوى الكبرى أكثر مما هي تجسيد لتحول اجتماعي طبيعي.
لكل هذه الأسباب، يستحيل حسب هذا المشهد الحالي، الحديث عن إمكانية بناء تصور استراتيجي موحد للقارة الافريقية، تصور تدخل به حلبة الصراع الدولي القائم. وبالتالي ما هو موقع المغرب في ظل هذا السياق القاري المشتعل والمتغيرات الدولية الشاخصة؟
يمكن تقسيم كلمة المغرب التي افتتحت بها القمة الروسية الافريقية، والتي ألقاها رئيس الحكومة عزيز اخنوش، إلى مستويين، مستوى أول، أكد فيه المغرب على الروابط التاريخية بروسيا، وعلى التوازن الاستراتيجي الذي يحكم موقف المغرب من الأطراف الدولية المتصارعة، ومستوى ثان، تمت الإشارة فيه إلى المبادئ التي يلتزم بها المغرب، في نظره، لحل النزاعات الدولية التي تدور رحاها اليوم. وبغض النظر عن التأويلات التي يمكن أن نعطيها لدلالة البدء بكلمة المغرب بالنسبة لدول القارة، أو الرد الفوري والمقتضب لبوتن بعد كلمة اخنوش بخوص الامن الغذائي، وأيضا عبارات الود التي طلب منه ان ينقلها لجلالة الملك، والتأويلات المحتملة لكل هذه الرسائل المشفرة، فهل بالفعل تعكس كلمة رئيسي الحكومة عزيز اخنوش الخط الأساسي والواجب لتصور السياسة الخارجية المغربية في هذه المرحلة؟
نشير هنا إلى أن المغرب أمام تحديين مركزيين، تحدي الوحدة الترابية، ودعم الجزائر حليفة موسكو الموثوق في المنطقة للمنظمة الانفصالية، وتحدي وثيرة تحقق التنمية ضمن مشاكل التضخم والأمن الطاقي والغذائي. ونحن هنا لا نحاول او ندعي صياغة تصور، بقدر ما نروم فرز الأسئلة والاشكالات، التي ربما تشكل بوابة لفهم أكثر دقة للواقع الإقليمي والدولي الحالي، وهو ما قد يساعد في صياغة هذا التصور.
إن قبول المساعدات الروسية، سواء فيما يتعلق بالديون الخارجية، أو بالطاقة والغذاء، يعني ضمنا فتح جسر تواصل بري وبحري وجوي مع المنظومة الاقتصادية الروسية، وهو ما يؤدي مباشرة إلى تكسير رزنامة العقوبات الغربية المفروضة على روسيا، فيما يتعلق بتنقل الأموال وكذا تنقل البضائع، وهو ما يعني الانخراط الفعلي في التطبيع السياسي والاقتصادي مع روسيا، بغض النظر عن المواقف الإعلامية الرسمية المتضامنة مع اكرانيا في محنتها. كما ان اتخاذ موقف سلبي من مخرجات القمة الروسية الافريقية، أي النأي عن تعامل مهم في جانب المبادلات التجارية والنقدية، قد تفسره موسكو في الاتجاه المخالف، والمغرب في غنى تام عن أي انخراط، مباشر أو غير مباشر، لروسيا في الصراع الإقليمي في منطقته وحدوده، ففاغنر الوكيل الخاص للجيش الروسي يمارس نشاطه بحرية بمالي جارة المغرب، وأي إدخال لتقنية عسكرية أو إمكانات جديدة في حلبة الصراع الاقليمي، سيعني أعباء مضافة على القوات المسلحة الملكية، فيما يرتبط بضبط الحدود والدفاع عن الثغور.
إجمالا، إنه وضع معقد ومتشابك، وعلى الديبلوماسية الخفية، أن تنشط أكثر من الدبلوماسية الرسمية الظاهرة، ويجب فتح قنوات الاتصال مع كل الأطراف، لتوضيح الوضع والموقف المغربي الخاص، وللدفاع عن الخط الاستراتيجي للمرحلة الحالية، والذي يجب أن يعنى أولا وأخيرا، بالأمن القومي للدولة المغربية.
ذ.الكنتي لمين