الصحراء لايف : بقلم الاستاذ عبد الله الفرياضي
الإنسان في التعريف هو ذاك الكائن المتميز حصرا بمَلَكَة العقل دون غيره من بقية الكائنات الحية الأخرى.
ومعنى ذلك أن الإنسان هو الكائن الوحيد القادر على ممارسة مختلف العمليات الذهنية التي تسمى تفكيرا، كالتساؤل والشك والتفكيك والتركيب والاستقراء والاستنباط وغيرها من التمارين الذهنية التي نمارسها يوميا عن وعي وإدراك أو عن غير وعي.
وبمجرد أن يستخدم الإنسان العادي عقله في تقدير الأمور عبر هذه التمارين الصورية التجريدية، بغاية فهم الماضي للتعايش مع الواقع أو حتى السيطرة عليه وأيضا لاستشراف المستقبل، فهو بذلك إنما يفعل فعلاً من أفعال التفلسف دون أن يدري.
علينا بداية أن نترك لأنفسنا إمكانية الإندهاش فلسفيا أمام معطيات الواقع. والدهشة هنا ليست رديفة لذلك الإنفعال الغريزي غير الواعي المسمى اندهاشا كتجسيد معين لحالة سيكولوجية مغرقة في التعجب، وإنما القصد من الدهشة الفلسفية هو عدم تلقي المعطيات التي يحبل بها الواقع تلقيا سلبيا؛ وإنما تلقيا إيجابيا لا يقف عند مجرد الدهشة، بل يتجاوزها نحو اللحظة الثانية من ممارسة فعل التفلسف.
حيث تستلزم وضعية اندهاشنا العقلي أمام تلك المعطيات إخضاعها للشك. فليس كل ما يتبدى لنا أو يروى لنا حقيقة، بل إن الحقيقة ذاتها ليست إلا نتاجا لممارستنا الشك، والشك هنا ليس من أجل ذاته فحسب، وإنما لغاية معلومة.
إذ نعني به ذلك الشك المنهجي كما قعد له ديكارت وقبله الغزالي. أي الشك كمنهج سالك لبلوغ الحقيقة في نهاية المطاف. فلولا الشك في الأشياء والأفكار لما تمكنا من إخضاعها للمساءلة عبر أشكلتها أو تحويلها إلى مفارقات تمكننا من الإحاطة بمختلف جواب موضوعها عبر آلية التفكيك والتحليل. والعلة في تركيزنا على ضرورة إخضاع الأفكار ومختلف المعطيات لعملية التفكيك هو إيماننا بأن بنيتها الكلية الشاملة تعيق إمكانية تحقق فهم موضوعي لها، مما يحتم تفكيكها إلى أجزاء يتم إخضاع كل جزء منها للمساءلة بغاية الفهم. إذاك يمكننا الإستعانة بملكة التركيب التي خُص بها الكائن البشري، أي تركيب تلك الأجزاء بغرض إعادة تشكيل الكل كما كان في وضعه الأصلي قصد فهمه واستيعابه في كليته.
إن تحقق استيعابنا لحقيقة الأفكار بعد إخضاع الواقع لمختلف العمليات التي ذكرناها آنفا، يجعلنا نقطع أشواطا كبيرة في عملية التفلسف، ليبقى أمامنا خيار تشكيل آرائنا ومواقفنا الشخصية المتماسكة منطقيا حول أي موضوع. ولعل ما يضمن هذا التماسك المنطقي المطلوب في أي رأي، هو قدرتنا على الدفاع عنه وبالتالي قدرتنا على إقناع الآخرين به. غير أن إقناع الآخرين كما هو معلوم يعتبر أمرا عسيرا وليس بالأمر السهل، مما يفرض العودة مرة أخرى إلى الفلسفة بغاية الإستفادة من إمكاناتها الهائلة في تقنيات وأساليب المحاججة.
فآراءنا حتى تجد لذاتها قبولا لدى الآخرين ولدى ذواتنا نفسها تحتاج إلى أساليب حجاجية قوية تضمن لها قوة المحاججة والإقناع. خلاصة القول أننا في أمس الحاجة، اليوم وقبل أي وقت مضى، إلى الدرس الفلسفي في حياتنا اليومية.
إذ لا أرى للوجود الإنساني أي معنى أنطولوجيا يستحق الإهتمام إذا كانت ملكة العقل لديه معطلة تحت ذرائع مختلفة من قبيل الحجر الديني الذي تمارسه بعض الفئات المحسوبة على المنظومة الدينية أو تلك الوصاية التي تمارسها الأجهزة الأمنية على عقول مواطنيها.
أن أكون إنسانا حقيقيا في نظري يعني أن أكون حرا في ممارسة التفكير، والتفكير خارج آليات التفكير الفلسفي المشار إليها آنفا لا يمكن اعتباره تفكيرا حقيقيا.
إن الإنسان لا يمكنه أن يصبح إنسانا كاملا في نظري ما لم يتفلسف.